كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تبدأ الحملة بهذا التهكم الواضح في استعمال كلمة {بشر} مكان كلمة أنذر. وفي جعل العذاب الأليم الذي ينتظر المنافقين بشارة! ثم ببيان سبب هذا العذاب الأليم، وهو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين؛ وسوء ظنهم بالله؛ وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة.
{بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا}.
والكافرون المذكورون هنا هم- على الأرجح- اليهود؛ الذين كان المنافقون يأوون إليهم؛ ويتخنسون عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
والله- جل جلاله- يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله- عز وجل- بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى؛ وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده؛ فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين!
ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها.. العبودية لله.. فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى؛ وأشخاص شتى؛ واعتبارات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار.
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال.. ولمن شاء أن يختار.
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسًا ممن يدعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين.. وإلا فإن الله غني عن العالمين!
ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر؛ واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبًا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازًا جاهليًا، وحمية جاهلية.
روى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عباس. عن حميد الكندي عن عبادة ابن نسي، «عن إبى ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزًا وفخرًا، فهو عاشرهم في النار».
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ. في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسًا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى.. يسمي ذلك تسامحًا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانًا بحرية الرأي!!! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسًا بالضعف والهوان!
إن الحمية لله، ولدين الله، ولآيات الله. هي آية الإيمان. وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد؛ وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار. وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدًا. ثم تهمد. ثم تخمد. ثم تموت!
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله. فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة. وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين- ذوي النفوذ- وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ. وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة.. حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة. وأراد أن يجنبهم إياها.. ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرًا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقًا. فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.. وإلا فهو النفاق.. وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين:
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. إنكم إذًا مثلهم. إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا}.
والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب، هو قوله تعالى في سورة الأنعام- وهي مكية-: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن: {إنكم إذًا مثلهم}.
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد: {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا}.
ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي- كما أسلفنا- بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة- إذ ذاك- والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى- كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدًا رويدًا؛ ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع.. في عالم الواقع.. مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه؛ ويمسكون العصا من وسطها، ويتلوون كالديدان والثعابين: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}.
وهي صورة منفرة. تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر. وهم- مع ذلك- يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون: حينئذ:
{ألم نكن معكم}.
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة- فقد كانوا يخرجون أحيانًا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم!
{وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}.
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين. في قلوبهم السم. وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين.. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم بتوجيه ربه في مسألة المنافقين، هي الإغضاء والإعراض، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة؛ حيث يكشف الستار عنهم، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين:
{فالله يحكم بينكم يوم القيامة}.
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور.
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر، وهذا التآمر مع الكافرين، لن يغير ميزان الأمور؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين:
{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}.
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة. حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل.
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال. وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين.
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد.. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانًا قد توحي بغير هذا. ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من الله قاطع. وحكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة، ونظامًا للحكم، وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة.. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا.
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها!
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان. إما في الشعور وإما في العمل- ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة- وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية؛ ثم يعود النصر للمؤمنين- حين يوجدون!
ففي أحد مثلًا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة. وفي حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا.. نعرفه أو لا نعرفه.. أما وعد الله فهو حق في كل حين.
نعم. إن المحنة قد تكون للابتلاء.. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان، ومقتضياته من الأعمال- كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين- فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك.. إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح، وكلال العزيمة. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودًا وكلالًا وقنوطًا. فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق.. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد. ولو طال الطريق!
كذلك حين يقرر النص القرآني: أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.. فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود. وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورًا وشعورًا؛ وفي حياتها واقعًا وعملًا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها.
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان. ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك.. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء؛ وألا نطلب العزة إلا من الله.
ووعد الله هذا الأكيد، يتفق تمامًا مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون.
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لاتضعف ولا تفنى.. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها.. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعًا.
غير أنه يجب أن نفرق دائمًا بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان.
إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية. ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها.. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها.. لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء. ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان!